بغض النظر عن نتائج انتخابات مجلس النواب العراقي ، التي بدأت بفتح أبواب محطاتها أمام الناخبين للإداء بأصواتهم صبيحة هذا اليوم، فإن التحالفات الحالية بين أطراف القوى المدنية والديمقراطية واليسارية تمثل خطوة مهمة ومسؤولة، كان ينبغي أن تتحقق على أرض الواقع منذ سنوات طويلة. هذا العمل المشترك ليس مجرد تكتيك انتخابي، بل ضرورة وطنية لتجنيب العراق كوارث المحاصصة الطائفية التي أوصلته إلى أزمات خانقة في مختلف المجالات.

لهذه التحالفات والتنسيق بين أطراف القوى المدنية والديمقراطية أهمية كبيرة لمستقبل العراق، فهو يشكل درعًا منيعًا لحماية مصالح الشعب العراقي ووقف التدهور المستمر. وأجزم إن ما تحقق اليوم هو نتيجة شعور عميق بحجم الخراب، وقناعة بأن التمزق والتشتت السياسي يفتحان الطريق أمام قوى المحاصصة للعبث أكثر بمصير البلاد. هذا التحالف يعكس إدراكًا متزايدًا لأهمية رص الصفوف وإطلاق صرخة "كفى" في وجه قوى المحاصصة والفساد والقمع والجريمة، والعمل السلمي لتغيير موازين القوى لصالحها ووضع العراق على طريق التنمية والعدالة الاجتماعية.

من المعروف إن القوى المدنية لا تقتصر على الأحزاب والمنظمات المشاركة في الانتخابات الحالية، بل تمتد جذورها إلى كل بيت عراقي يرفض نهج المحاصصة والفساد والقمع. ومع ذلك، فإن جزءًا محدودًا منها فقط، توصل إلى قناعة بأن المشاركة في الانتخابات قد تكون رافعة للتغيير في المنظومة السياسية، بينما لا تزال بقية الامتدادات متمسكة بعدم جدوى الانتخابات في ظل سلطة جائرة تعتمد على ثلاث أدوات خطيرة.:

1-الدين، بتدخل مباشر من مراجع دينية إذ ساهمت الفتاوى التي أصدرتها بتربع المعادين لمصالح الشعب العراقي على كرسي السلطة .

2- الطائفية، التي تشكل ثنائية مدمرة إلى جانب الدين على مستقبل العراق والتي أسست لنهج طائفي خطير في إدارة الدولة والمجتمع وغلق الطريق أمام قيام دولة المواطنة .

3-النزعة القومية، التي تعيق بناء دولة متعددة القوميات والطوائف. إذ لن يكون بمقدورها المساهمة في بناء توازن اجتماعي وشراكة حقيقية في كنف دولة مدنية .

ومن الجدير قوله إن هذه الحصيلة من التحالفات الحالية، هي ثمرة جهد مضني متواصل يمتد لسنوات طويلة، أي منذ تولي أحزاب المحاصصة للسلطة السياسية في البلاد، جاءت بعد تجارب متعثرة كثيرة ونضالات جماهيرية واسعة ينبغي الاستفادة من دروسها، وفي نفس فهي مدعوة في الوقت الحاضر وبالحاح لدراسة التحولات العميقة في بنية المجتمع العراقي، فضلا عن دراسة مغايرة لطبيعة النظام السياسي، كي تمهد الطريق لأجل تشخيص أهدافها بوضوح تام واختيار أساليب نضالية متجددة، تنسجم مع حجم المشكلة التي يعاني منها بلدنا. بما يكفل التفاف أو انضمام أومشاركة بقية امتدات القوى المدنية الحية في الجهد النضالي من أجل تحقيق التغيير المنشود لكامل المنظومة السياسية. لأن السلطة الحالية لن تتخلى عن نفوذها بسهولة، وهي مستعدة لارتكاب أبشع الأساليب للحفاظ على مواقعها، كما تؤكد تصريحات قادتها. هذه الطغمة الحاكمة تمسك بالقرار العراقي عبر أدوات الدين والطائفة والسلاح المنفلت سواءا الذي بيد الميليشيات أو الحشد الشعب الذي لم يعد لوجوده ضرورة وطنية فضلا عن الثروة إذ تستخدم المال العام بكل صفاقة، ففي هذه الانتخابات فقط تشير الأرقام إلىهدر أكثر من 8.5 مليار دولار على الدعاية الانتخابية، صرفت ابتداءا من وجبة كباب لناخب بسيط ووصلت إلى صورة للحلبوسي بالدرونات خدشت صفوة سماء العراق ، هذه القوى ليست مستعدة لتترك صناديق الاقتراع دون حراسة تفسد أصوات التغيير وإعادة تدوير نفسها حتى ولو كان ذلك على جثة "العراق "

ولابد من الإشارة إلى أن الحراك الأخير الذي بدأ في بغداد، وكسر الجليد بين أطراف اليسار، يمثل بارقة أمل. لقاءات الحزب الشيوعي العمالي العراقي مع الحزب الشيوعي العراقي، ثم مع الحزب الشيوعي الكوردستاني، وزيارة الأخير إلى مقر التيار الديمقراطي وما تمخض عنها من بيانات تحمل في طياتها التزامات نضالية وتوجهات عملية، كلها خطوات تحمل وعدًا صادقًا بالعمل المشترك. وامتداد هذا الحراك إلى أربيل وتفاعلاته المقبلة سيكون اختبارًا حقيقيًا لقدرة هذه القوى على التواصل فيما بينها ومع الجماهير والدفاع عن مصالحها.

يقع على عاتق القوى المدنية واليسارية وكل من له مصلحة في تعافي العراق، العمل على تبني خارطة طريق وتحقيق التوجهات التالية:

1-بناء إطار تنظيمي واسع، إطار متعدد المنابر يستوعب كل امتدادات هذه القوى، عبر لقاءات ومؤتمرات جماعية أساسها الحوار وتقبل الآخر، بعيدًا عن التخوين والتعالي.

2- صياغة برنامج مرحلي واضح المعالم وفق رؤية علمية دقيقة، يجمع مختلف الرؤى ويضع سبل التصدي للأزمات الراهنة.

3- مغادرة الموسمية في العمل والانخراط المستمر في النضالات الجماهيرية، عبر التواصل والتعبئة في الشارع، المعمل، الجامعات، وبين الفلاحين وكل التجمعات الشعبية.

 وأخير أقول ليس ترفًا فكريًا أن ندعو لتعبئة الجماهير وتوعيتها ، بل هو واجب تاريخي ووطني. العراق اليوم بحاجة إلى تحالف صادق، يتجاوز الخلافات، ويضع مصلحة الشعب فوق كل اعتبار. فلنكن على قدر المسؤولية، ولتكن هذه اللحظة بداية لمسيرة نضالية جديدة عنوانها: التغيير الحقيقي.