
بعد إعلان نتائج الأنتخابات البرلمانية الأخيرة في البلاد، وإعادة تدوير نفس منظومة الحكم لتتربع على عرش السلطة لأربع سنوات قادمة، وغياب القوى العلمانية والمدنية الديموقراطية ومنها اليسار العراقي عن المشهد السياسي البرلماني، إرتفعت أصوات كثيرة من أوساط القوى المتضررة ومن القريبين منها أو المحسوبين عليها لتجلد هذه القوى، وفي مقدمتها الحزب الشيوعي العراقي. ولكي نبتعد عن الشخصنة والاتهامات المتبادلة التي وصل البعض منها وللأسف الشديد إلى اشتباكات لفظية واتهامات لا تليق بمناضلين قضوا فترات طويلة من حياتهم وهم يناضلون في سبيل سعادة شعبهم وتقدّمه، نقول إنّ موقف هؤلاء المنتقدين هو من باب الحرص على الحزب الشيوعي العراقي من أجل دفعه للبحث عن أساليب نضالية جديدة تتواءم وظروف بلادنا الراهنة، على الرغم من أنّ الحرص هذا يجب ترجمته بهدوء وعقلانيّة، كون خسارة القوى الديموقراطية للأنتخابات، هي خسارة لشعبنا الذي يجب علينا العمل دون هوادة من أجل تحقيق أهدافه للخلاص من نظام المحاصصة الطائفية القومية وبناء عراق جديد على أنقاضه، وهذه الخسارة هي نفسها التي أراد منتقدو الحزب اليوم عدم وصول شعبنا ووطننا اليها من خلال نضالهم المشرّف في صفوفه، هنا أرى أن نتوقف جميعا عن هذا الجلد العنيف للذات، ولنفكر بهدوء وبعقلية متزنة وبمشاركة واعية في تبادل الأفكار والآراء ونقد بنّاء للعملية السياسية برمتها منذ الأحتلال لليوم، وسبل تعزيزموقف الحزب واليسار والقوى الديموقراطية وكل المتضررين من نظام الفساد والمحاصصة، فنحن جميعا على نفس القارب وإن كنا مختلفين في الآراء وطرق العمل، فلنجذف بسفينة العراق وبهدوء إلى شاطئ الأمان، فبلادنا وشعبنا على كف عفريت المحاصصة تسير نحو المجهول، وأي مجهول!
لنبدأ المقالة بدور الدعاية الأنتخابية في بلد فاسد كالعراق ومجتمعه ذي البنى الاجتماعية الهشّة، ومقارنتها ولو بشكل سريع مع الدعاية الأنتخابية في البلدان الديموقراطيّة، في نجاح وفشل القوى المتنافسة على مقاعد البرلمان. وتناول موضوعة الحزب الشيوعي العراقي وأسباب فشله وما عليه العمل لتجاوز وضعه الراهن، في نهاية المقالة.
تعتبر الدعاية الأنتخابية من العناصر المهمّة في كل أنتخابات برلمانية أو محليّة، ولأهميتّها فأنّ هناك شركات تضع أستراتيجية متكاملة لحزب ما وطريقة أدارته لحملته الأنتخابية، من خلال استطلاعات الرأي ونقاط قوة وضعف المنافسين وتصميم الأعلانات والصور وطبيعة الجمهور الذي على الحزب مخاطبته وكيفية إدارة منصّات التواصل الأجتماعي وغيرها. ولو عدنا إلى الدعاية الانتخابية للقوى الديموقراطية (اليسارية والمدنية والعلمانية الديموقراطية)، مقارنة مع قوى المحاصصة المهيمنة على المشهد السياسي منذ إحتلال العراق لليوم، سنرى فقر الآلة الإعلامية عندهم مقارنة بأحزاب السلطة، وهنا تكون هذه القوى قد خسرت أولى جولاتها وأهمّها وهي تدخل حلبة الصراع الأنتخابي، بعد خسارتها قبل دخولها السباق الأنتخابي وهي تحت رحمة قوانين أنتخابية تضعها أحزاب السلطة نفسها، وثقتها بقضاء غير نزيه وغير عادل، ومفوضيّة أنتخابات غير مستقلّة بالمرّة كون أعضائها موظّفين بنسب تتحكم فيها أحزاب السلطة نفسها، مع تكريس كل أجهزة الدولة وأعلامها وحتى المؤسسات الدينية والمال السياسي والسلاح وغيره لصالحها. لذا فخروج القوى الديموقراطية من كل أنتخابات دون تمثيل يذكر أو تمثيل سياسي غير مؤثّر، يعتبر تحصيل حاصل وأمرا لا بدّ من حدوثه.
أحزاب السلطة لا تدخل الصراع الأنتخابي ببرامج حقيقية وواضحة، عكس القوى الديموقراطية ومنها الحزب الشيوعي الذي يطرح برنامجا وطنيا يهدف إلى أنهاء نظام المحاصصة وبناء عراق جديد. لذا نرى أحزاب السلطة تستفاد من هشاشة الوضع الأجتماعي في تعزيز دعايتها الأنتخابية عن طريق، تسويق مرشّحيها من خلال تكريس الأنقسامات الأجتماعية كالهويّات الطائفيّة والعشائرية والمناطقية كمنقذين للطائفة والقومية والاعراف العشائرية، بعد أن يشتد الصراع الطائفي القومي قبل الانتخابات في كلّ دورة أنتخابية وخلق أجواء شعور بالخطر من التغيير عند الناس من الطرف الآخر وخصوصا الطائفي (شيعي- سنّي)، وبذلك يتم أستقطاب الشارع العراقي ما يجعل القوى الديموقراطية دون ظهير جماهيري، أو ظهير جماهيري محدود. كما وتقوم أحزاب السلطة باستغلال مؤسسات الدولة لصالحها وتقديم وعود تعيين وخدمات، سرعان ما تتلاشى بعد غلق صناديق الأقتراع، وافتتاح مشاريع وهمية أو متأخرة او الأسراع بأفتتاح مشاريع خدمية على حساب الجودة كدعاية انتخابية، وهذا ما يفتقر اليه الحزب الشيوعي والقوى الديموقراطية التي فشلت في الأنتخابات الأخيرة.
الملاحظ في "الديموقراطيّة" العراقية، عدم وجود أية مناظرات سياسية بين رؤساء الأحزاب والقوائم الانتخابية، قبل وأثناء التحضير للأنتخابات، على الرغم من أهميّة هذه المناظرات في أستقطاب الجمهور المتردد بالمشاركة فيها، وعرض المتنافسين برامجهم السياسية والأقتصادية والأجتماعية والدفاع عنها. وهذا يعود إلى غياب التقاليد الديموقراطية وثقافة الأنتخابات كطريق للتداول السلمي للسلطة، وهروب أحزاب السلطة منها (المناظرات) كونها تكشف توجهاتهم الطائفية القومية والبعيدة كل البعد عن تحقيق الأستقرار السياسي والنمو الأقتصادي للبلاد في ظل فساد تتوارثه نفس الأحزاب في غياب معارضة حقيقية وغياب شبه كامل للوعي عند الناخبين.
الدعاية الأنتخابية التي تملكها أحزاب السلطة متنوعة ومؤثرة في مجتمع غيّبت الحروب والحصار والحرب الطائفية والأستقطاب الطائفي القومي، وتآكلت بسببه وغيرها من الأسباب كالفقر والبطالة والأميّة الروح الوطنية، وعي الناس بشكل مخيف. فهذه القوى وعلى عكس القوى التواقة للتغيير، تستطيع نتيجة تراكم ثرواتها التي جنتها من الفساد شراء الأصوات وتوزيع المساعدات العينية أو مبالغ نقدية وإستغلالهما للتأثير على خيارات بعض الناخبين مستغلين فقرهم وعوزهم وجهلهم. ومن ركائز قوى الفساد في دعاياتهم الأنتخابية، هي الخطب الدينية والفتاوى لتوجيه الناخبين لنصرة أحزاب وميليشيات اسلامية مسلحة نصرة للمذهب وعلى انها واجب شرعي...! وهنا تكون القوى الديموقراطية قد خسرت جولة جديدة قبل أن تبدأ السباق الأنتخابي.
لأن قوى الفساد تملك آلة أعلامية ضخمة، فأنها تبدأ حملات شيطنة منافسيها عبر حملات تسقيط منظمّة من خلال الفضائيات العديدة التي تمتلكها، وجيوش من الذباب الالكتروني لنشر الشائعات. ونجاح هذه الآلة الأعلامية المضللة. ومن خلال التجربة نرى نجاح هذه القوى يعود إلى عدم وجود قانون ينظم الحملات الأنتخابية وسقوف مصاريفها وشفافيتها، ويعتبر غياب الوعي والوعي السياسي جزء مهم في هذا المجال، كما وأن الفقر والبطالة يجعلان المواطن البسيط عرضة للأستغلال والابتزاز المادي. ويبقى عدم وجود اعلام معارض ومهني وفعّال في مواجهة اعلام السلطة وديماغوجيتها، لكمة أخرى توجه إلى القوى الديموقراطية التي لا تمتلك آلة اعلامية قادرة على مجاراة منافسيها، علما أنّ هذه القوى لم تفكر لليوم على ما يبدو في تعزيز مواقعها الاعلامية من خلال شبكات التواصل الاجتماعي، وهي سهلة ويمكن الوصول اليها بسلاسة وبامكانيات مالية بسيطة جدا!!
وتبقى الأنظمة الانتخابية وتغييرها بما يتناسب ومصالح قوى المحاصصة كقانون "سانت ليغو المعدل" في رفعها حاجز دخول البرلمان للحيلولة دون تمثيل مؤثر للقوى المدنية، من اهم عوامل ضعف الأحزاب المدنية وخسارتها في كل أنتخابات، وهذه الخسارات المتكررة تجعلنا نتساءل، لم المشاركة إذن وعدم خوض الانتخابات لحين تحقيق شروط خوضها على قدم المساواة مع الأحزاب الأخرى! وكخلاصة لما تقدم، فأن الدولة العميقة ومواردها المالية الضخمة وميليشياتها ونفوذها ومرجعياتها السياسية والدينية من القوّة بحيث يصعب على القوى الديموقراطية مجاراتهم فيها، خصوصا وأن البيئة الأنتخابية بالعراق بيئة غير مستقرة ولا آمنة ولا قوانين فعّالة تحكمها، وفي غياب كامل ومشبوه للعمل بقانون الأحزاب الذي يزيد الطين بلّة.
الحزب اليوم يعتبر نفسه حزبا أنتخابيا، فهل يمتلك أدوات تجعله فعلا حزبا انتخابيا؟
أنّ فعالية الحزب ضعيفة جدا أو تكاد تكون معدومة خارج المدن الكبرى (هناك بلدات لا وجود للحزب فيها بالمرّة) كالاقضية والنواحي والعشوائيات في أطراف المدن الكبرى كالعاصمة، وهذا يجعله معزولا عن قواعد سكانية كبيرة من المهمّشين والفقراء والعاطلين. وبالعودة لتاريخ الحزب وعموم اليسار العالمي، فأن نجاحها اعتمد على وجودهم بين الناس وسط المعارك اليومية لا عبر الخطب السياسية فقط، وعليه فأنّ عدم التواجد في هذه المناطق وتشكيل قواعد انتخابية ثابتة، يعني ترك المجال أمام الآخرين لأحتكار العمل فيها، خصوصا وأن هذه الجماهير عرضة لأبتزاز قوى السلطة لفقرها وعوزها.
الحزب الانتخابي لا ينتظر موسم الأنتخابات ليبدأ نشاطه الدعائي، بل يبدأ نشاطه حال إعلان نتائج الانتخابات آخر إنتخابات شارك فيها، وعلى الحزب اليوم أن يبدأ بوضع خارطة طريق لحملته الأنتخابية القادمة منذ هذه اللحظة إن توفّرت شروط مشاركته فيها، والعمل على تطوريها وفق ظروف البلاد لتأسيس قواعد جماهيرية تمنحه أصواتها مستقبلا. وهذه تبدأ بالشجاعة في الأعتراف بالأخطاء والتأكيد على أصلاحها وتجاوزها بأسالبيب تنظيمية بنّاءة، وجرأة في التغيير، والتواجد المستمر والقيادي في جميع الأحتجاجات والأضرابات التي تقام في مواجهة الناس للسلطات للمطالبة بحقوقهم، وصياغة شعاراتهم وتبني مطالبهم والدفاع عنها، وهذا يحتّم على الحزب أن يعمل بشكل يومي وليس موسمي كي يكون حاضرا في ذاكرة وعقلية الناس. وبمعنى آخر تحويل الحزب من أفكار إلى حضور وتواجد يومي في الشارع والمدارس والجامعات والاسواق، في المدن والأطراف.
لنعود الآن إلى فشل الحزب في الأنتخابات الأخيرة والتي لازالت وستظل تشغل مساحة واسعة من النقاش والحوار بين صفوف أعضائه ومؤازريه وجماهيره، هذا الحوار الذي خرج أحيانا عن المنطق السياسي البنّاء ليتحوّل إلى ساحة لحوار أقل ما يقال عنه من أنّه غير حضاري ولا يليق بالشيوعيين وإن أختلفوا في وجهات نظرهم ومواقفهم. فالذين لا زالوا يعملون في صفوف الحزب عليهم تهدئة مواقفهم ومناقشة ما جرى داخل تنظيماتهم بهدوء ومن خلال مبدأ النقد والنقد الذاتي البنّاء، وعلى عاتق الرفيقات والرفاق البعيدين عن صفوف الحزب من الذين يحزّ في نفوسهم مصير الحزب وشعبنا ووطننا في ظل الظروف الراهنة حيث الأخطار تحيط بنا، تهدئة مواقفهم وعدم شخصنتها وتقديم مقترحاتهم وآرائهم من خلال كتاباتهم إلى صحافة الحزب وموقعه الالكتروني، مع ضرورة نشرها من قبل القائمين على الأعلام الحزبي، فالآراء المخالفة ليست بالضرورة ضد سياسة الحزب، بل من الممكن جدا الأستفادة من الكثير الذي يرد فيها، وفي نفس الوقت سيعتبر نشرها بوابة لأعادة الثقة بين الرفيقات والرفاق المنقطعين والحزب، في وقت فيه الحزب بحاجة ماسّة إلى كل الجهود الصادقة لبناء وترميم منظماته للتواصل مع أوسع القواعد الجماهيرية، كوننا كشيوعيين نتحمل جزء من هذا الخراب الذي حلّ بشعبنا ووطننا، وعلى عاتقنا وكل القوى الخيّرة في هذا البلد يقع خلاصه من براثن النظام المحاصصاتي الفاسد.
ما العمل...؟
أنّ أنحسار القاعدة الجماهيرية للحزب وتراجع إداءه الأنتخابي وتأثيره على المشهد السياسي، علينا قراءته ليس بوصفه ظاهرة أنتخابية فقط، بل بوصفه خلل تنظيمي وسياسي على قيادة الحزب وتنظيماته والحريصين على دور الحزب في الحياة السياسية العراقية وأستعادة دوره وقوّته الجماهيرية، تقديم رؤى سياسية عملية وواقعية بما يتناسب والواقع السياسي العراقي المعقّد اليوم لتصحيحه وتجاوزه.
إنّ إعتماد الحزب على تاريخه وحده دون تطوير آليات عمله سيؤدي إلى انحسار جماهيري أكبر مما يعيشه اليوم، وعليه ومن هذه اللحظة إجراء إصلاحات داخلية جذرية لإعادة بناء الحزب بوجه شاب، من خلال بناء مدارس حزبية وإطلاق برامج إعداد للكوادر الشابة التي سيقع على عاتقها قيادة الحزب في المستقبل القريب، وعليه فأنّ الحزب مدعو إلى تحديث خطابه السياسي ليكون الأقرب إلى فئة الشباب وهم الأكثر نسبة في المجتمع. فالحزب اليوم امام فرصة كبيرة لأستقطاب شبيبة تعاني من الفقر والبطالة وغياب العدالة الأجتماعية. والملفت للنظر أن المدارس والمعاهد والجامعات التي كانت يوما قلاعا شيوعية، أصبحت اليوم خارج تأثير الحزب وسياساته، ما يفرض عليه العمل على بناء ركائز طلابية نشطة وجماهيرية فيها، وتنظيم فعاليّات ثقافية وسياسية تلامس حياة الطلبة والناس فيها وخارجها من خلال مهرجانات وتجمعات طلابية. وللحركة الطلابية العراقية ادوارا مشهودة في النضال الوطني منذ تأسيس الدولة العراقية لليوم مرورا بإنتفاضة وهدير الطلبة وتواجدهم الفعّال في ساحات التظاهر أثناء انتفاضة تشرين.
المشاركة في الأنتخابات ليست الوسيلة الوحيدة للنضال، فإلتزام المعارضة السياسية السلمية وتبني مطالب الجماهير في بلد ينخره الفساد كالعراق، شكل أرقى من المشاركة بالأنتخابات التي إن نجح الحزب ومعه القوى الديموقراطية في إختراقها، فأنّ إختراقهم هذا لن يؤثّر على شكل اللوحة السياسية القاتمة التي يجيد المتحاصصون رسمها بالفحم الأسود.
الحزب الشيوعي مدعو اليوم إلى الإسراع في عقد مؤتمر وطني إستثنائي من أجل تصحيح أوضاعه التنظيمية وهي الاهم في هذه المرحلة، وبمشاركة فعّالة من تنظيماته داخل وخارج البلاد، مع الإستفادة القصوى من آراء وأفكار المئات من الحريصين على الحزب وتاريخه ودوره في حياة الناس والوطن. لنكن جريئين في تشخيص الأخطاء واكثر جرأة في طرح الحلول البنّاءة. فالحزب قادر بإنتهاجه سياسة مدروسة وعملية ونشطة مشاركة مع بقية القوى السياسية الديموقراطية من العودة للشارع من جديد، على أن يتحلّى والقوى الديموقراطية بالجرأة والنفس النضالي الطويل، والأستفادة القصوى من جرائم وأخطاء قوى المحاصصة وفضحها بشكل مستمر ويومي.







