إلى المربي الفاضل يوسف راضي التميمي (أبو أنمار)
(*)
النص الأول ليس ما نكتبه نحن البشر، النص الأول هو ما تكتبه الحياة في حياتنا اليومية، تجاربنا، مسراتنا وأوجاعنا، تكتبه بِلا مجاملة ولا حياء، وحين نمتلك وعيا مقاوما، أثناء ذلك، سنعيد صياغة حياتنا بشكل مشرّف، هذا على المستوى الميداني، الذي يحفز بعضنا على تخليق النص السردي أو الشعري، هذا النص الإبداعي، يستفيد من الميداني، ويختلف معه، في التناول من خلال جهاز المخيلة الذي يمتلكه الأديب بمهارة..
(*)
الأستاذ ذياب فهد الطائي من نخيل البصرة، وهو مثقف موسوعي ومرايا موسوعيته، مؤلفاته في الشأن العربي والعراقي، التي تجاوزت العشرين كتاباً. عرفتُ الروائي ذياب فهد الطائي من خلال رواياته، :(حديث في الممكن) 2014، (وادي الأرواح) 2023 وهذه نزهتي الثالثة مع (ثلاثة أصوات...)
(*)
وجيز الحدث الروائي في (ثلاثة أصوات من البصرة) يتمحور حول الشخصية الرئيسة مدرس اللغة الانكليزية الأستاذ عبد المنعم، الأنيق المستقيم في علاقته، المنسجم مع زوجته المثقفة وولده الوحيد(حكمت).. الكتاب هو الرابط الأعمق بين أفراد هذه العائلة الصغيرة
(*)
فجأة ً تتحول اللغة الأجنبية حبل غواية، وتفترس عبد المنعم: (هناء) أم فريال: امرأة ثرية بلا قلب بحجة تدريس بنتها، ثم تطلب من أن يتزوجها، فتغمره بالعسل، ثم تتكشف أبعاد هذه المرأة، ويعود المدرس إلى هيئته الأولى..
(*)
الذي يهمني شخصيا، في هذه الرواية، أنها ضمن مشغلي في (الرواية بصرة) وقد انجزت قبل سنة مخطوطة الجزء الأول وانتقلت قبل فترة ليست بالقصيرة إلى الجزء الثاني من (الرواية بصرة) قبل ذلك وتحديدا في 2012، صدر لي عن (دار ضفاف) الجزء الأول من (القصيدة بصرة).
(*)
في هذه الرواية، تحديداُ، جعلني الروائي، اتجول في شوارع مدينتي البصرة التي لا وجود لها في البصرة الآن، بصرة تحبني وأحبها في كل مراحلها ومراحلي، حتى البيت القديم الذي تسكنه العائلة، أكاد أعرفه من خلال صداقاتي مع بعض القاطنين في هذه البيوت في سبعينات القرن الماضي، من العوائل المندائية والمسيحية. والفعل الروائي هنا ينشّط ذاكرة أهل البصرة ويصون جماليات الأمكنة، التي تكاد تأفل.
(*)
في (ضوء) رواية فهد الطائي المنشورة في 2024، القوة الدافعة لسيرورة الرواية هي التوثيق، الفصل الأول للرواية، عنوانه رقميا (الخميس 2/ 7/ 2022 الساعة السابعة مساء) الفصل الثالث (ما قبل ذلك 21 آذار 1961)، ثم مجزرة شباط ولا أدري لماذا المؤلف جعل العنوان (8 فبراير 1963)!! ثم يصعد العنوان نحو (1966) في 83 يتخلى المؤلف عن الترقيم ويكون العنوان (العودة (المفترض مؤقتة) ثم في ص101 يعود للترقيم (1974 في المعتقل مرة ثانية) ويستمر التوثيق التاريخي (1992 الهجرة إلى أوربا) ويكتمل السرد دائريا من خلال العنوان الأخير (عودة على بدء 2022)
في (ثلاثة أصوات من البصرة) الزمن الروائي غير محدد بتقويم معيّن، يتنقل السرد برشاقة، بين الأمكنة والأزمنة، وهذه الفاعلية تحتاج تركيزا من القارئ العادي والنوعي، حتى لا يلتبس التلقي ويصاب بالتشويش، في ص8 العائلة تقطن بيتاً في (محلة الباشا) حسب معرفتي بالأمكنة، ثم يخبرنا السارد في ص10 (قبل أن ننتقل إلى بيت (اليهود) كنا في أبي الخصيب، لوالدي بستان كبير فيه بيت قديم يقع على ساقية). في الصفحات الأولى من الرواية، وتحديداً في ص12 يخبرنا السارد عن أبيه عبد المنعم (أستطاع أن ينتقل من جندي في الحرب التي قادها بكر صدقي ضد الآشوريين في شمال العراق إلى أفضل معلم للغة الإنكليزية في مدارس البصرة..) انقلاب بكر صدقي كان في 29 تشرين الثاني 1938 وفي ص29 يخبرنا السارد (كانت زوجة أخي أبنة ضابط في الليفي، وقد تقاعد قبل ثورة تموز، وأن الزعيم عبد الكريم قاسم، دعاه إلى العودة للجيش ولكنه رفض).. نحن هنا نكون مع نقلات في الزمن العراقي:
(1) زمن بكر صدقي الدموي
(2) زمن بداية الاحتلال البريطاني المشخص بعلامة جيش الليفي
(3) زمن ثورة تموز 1958
ها نحن في هذه سطور نكون مع أزمنة عسكرية محتدمة، وفي الصفحة ص29 ينتقل السرد إلى بيروت، وندخل مع السارد إلى فندق (فكتوريا) يبدو أنها بيروت في سنوات السلام والأمان فالسارد يتذكر لحظات الإمتاع والمؤانسة وكيف تعرف هذا السارد على عبد المنعم في منطقة (زحلة) ويتسع سرد السارد في الثلث الثالث من الرواية: ص29/ ص45، هنا يقفز السرد إلى البصرة، نسمع بأعيننا صوت القطار النازل إلى البصرة، ونرى عبد المنعم وزوجته في(غرفة الدرجة الأولى) والزوجة وهي تسرد تنقلنا من القطار إلى بيت الزوجية، ثم تصف لنا صباحات من الزوج المرهف في تعامله معها، في ص47 تخبرنا الزوجة(حينما نزلت من القطار كان عبد المنعم يقودني فيما عامل بعربة خشبية يتبعنا وهو يدخن.. ثم تدخل الزوجة البغدادية بيت زوجها عبد المنعم في أبي الخصيب. في ص50
(*)
تستوقف قراءتي الوحدة السردية الصغرى التالية (هذه الحياة لم تترك لي المجال بالتفكير أن زوجي يمكن أن يتغير!!!!) ما بين القوسين، بمثابة منبّه، وظيفته عتبة نصية لما سوف يكون، في ص51 تواجهنا عتبة نصية أخرى، الزوجة كانت منشغلة بقراءة رواية فرانسوا ساغان (مرحبا أيها الحزن).. في ص 54 نكون أمام العتبة الثالثة، حين يلقي زوجها تحية المساء وهو يدخل البيت ترد عليه التحية، تخبرنا الزوجة (كنت أسمع صدى صوتي يرن في رجع نحاسي مكبوت، ويملأ أذني على نحو شعرتُ معه يشبه دوار، ذكرني بصوت بندول الساعة العمودية في بيتنا في بغداد) هذه العتبات النصية تهب ُ القارئ وسائل إقناع لما سوف يحدث في هذا البيت المطمئن. لكن بعد الحدث يكون لصوت مديحة وقعا خاصا، وهي تخاطب زوجها عبد المنعم
(كان صوتها قاطعا، تضغط على مخارج الحروف بقسوة تعبر عن ألم حقيقي، وتتساقط الكلمات في أذني بجرس غريب وكأنها تأتيني من مكان مجهول عبر نفق يمنح الصوت مساحات من الفراغ/ 68)
(*)
الأرملة الثرية أم فريال، تجعل ضحيتها عبد المنعم طيعا
تحت تأثير سايكلوجية الملابس وبشهادة عبد المنعم
(تحاول تبهرني بأناقتها فهي ما تنفك ترتدي في كل يوم فستاناً يكشف عن ملامح أنوثة ناضجة تستعرضها بمهارة فيما تتحدث عيناها بلغة ساخرة/65)
(*)
ثريا الرواية عنوانها/ كما علمنا أستاذنا محمود عبد الوهاب في (ثريا النص) عنوان رواية الطائي يعيدني إلى عنوانات روائية عراقية وعربية:
(خمس أصوات) غائب طعمة فرمان/ منتصف السبعينات
(سبعة أصوات) محمد عبد حسن/ 2021/
(ثلاث أصوات من البصرة) ذياب فهد الطائي
(ثلاث وجوه لبغداد) غالب هلسا.
(الأشجار واغتيال مرزوق) عبد الرحمن منيف/ ط1/ منشورات وزارة الإعلام العراقية/ 1977 في الرواية. يتكلم شخصان فقط إلياس نخلة له نصف الرواية ومنصور عبد السلام له النصف الثاني.
(*)
(ثلاث أصوات من البصرة) ثلاث أصوات تتقاسم السرد العائلي، لكن الرواية تتكون مع أربعة، الصوت الرابع هو صوت أخو(مديحة) زوجة عبد المنعم، وصوت يمتد من ص29 إلى ص45 حيث تم التعارف بين هذا الصوت وعبد المنعم في مدينة (زحلة) ومن شدة إعجابه بشخصية عبد المنعم، قرر تزويج أخته لعبد المنعم
(*)
في رواية (ثلاثة أصوات من البصرة) نصغي لثلاثة أشخاص: الأبن من ص7 إلى ص 30، من ص33 إلى ص 58 تتكلم الأم، سعة الصوت (25) صفحة، ومن ص61 إلى ص89 نسمع صوت الأب، على مدى (29) صفحة.
كل صوت لا يتكلم عن نفسه، بل الصوتين الآخرين، أي كل صوت لا يستعمل المنولوج الذي يجسد ذات المتكلم، بل يستعمل صوت الديالوج ليضيء أبعاد الفضاء العائلي بين الثلاثة، وهنا جماليات الروائية واقتصادها السردي المشوّق للقارئ. (ثلاثة أصوات من البصرة) إجناسيا هي من الروايات القصيرة، وفي الوقت نفسه من الروايات التي
تنشّط الذاكرة البصرية لدى من عاصر زمن الرواية، ومن يريد أن يقتفي أثر الأمكنة في هدأة المكتبات